أموال يمن

متخصص بعالم المال والأعمال

تحليل مالي

الاقتصاد السياسي العربي

في هذا التحليل تجد مايجعلك قادراً على معرفة مسار الاقتصاد العربي،وتلك الرؤى المتشدق والتى تأتي عادة خارج السياق،يواجه الشرق الأوسط تحديات عميقة الغور على الرغم من ضخامة ثروته الهيدروكربونية، وموقعه الاستراتيجي، والقوى العامة الشابة فيه. فالمخاطر الجيوسياسية واضحة كل الوضوح، ومنها: النزاعات المتعاقبة في سورية واليمن، والصراع المستمر في بلدان مابعد الانتفاضة، مثل مصر وتونس، والضغوط الاقتصادية المتواصلة لانهيار أسعار النفط العام 2014. غير أن هذه القضايا الملحّة تحجب تحديات أكثر خطورة تواجه المنطقة: فقد تكشّف العطب في نموذج الدولة الريعية الذي بنيت عليه الاقتصادات العربية، وظهر الخلل في آليات التوزيع فيه.

في النظام الريعي، تستخدم الدولة الريوع – أي ما تتلقاه من مدفوعات مقابل استخدام عوامل الإنتاج الثابتة1– لتمويل شبكة واسعة من مجالات الرعاية والخدمات الاجتماعية للسكان. وعلى مدى سنين عديدة، حافظت الريعية الناجمة عن مبيعات النفط على الوضع السياسي والاقتصادي القائم في الشرق الأوسط. غير أن انخفاض أسعار النفط، وتعاظم المنافسة العالمية، وارتفاع معدل التكاثر السكاني قد أفقدت هذا النموذج طابع الاستدامة. ويتجلّى ذلك بصورة أوضح عند مقارنته بمناطق جغرافية أخرى شهدت نمواً اقتصادياً ديناميكياً مستداماً في العقود الأخيرة، مثل جنوب شرق آسيا.

بعد انهيار النظم القديمة، لم يتبلور بشكل واضح ما يمكن أن يحل مكانها. فبالإضافة إلى التحوّلات الاقتصادية الكلية التي لا مفر منها، فإن إقامة نظام جديد يتطلّب من الدول أن تبدأ نظام المحاباة وشبكات المحسوبية التي تشوّه المخرجات الاقتصادية وتحدّ من توليد فرص العمل. ومن هنا، فإن التحدي الاقتصادي لم يكن تقنياً وحسب، بل كان سياسياً في الوقت نفسه.

تُواجه كل دولة عربية تحديات فريدة من نوعها في بناء أطر إنتاجية مؤسسية. وسيكون من واجب كل دولة أن تجد مصادر مبتكرة للثروة والإنتاج مرتفع القيمة، وتحسّن من مستوى توزيع الموارد الاقتصادية، وتقيّم المؤسسات السياسية المناسبة. غير أن ثمة عناصر محددة مشتركة وواضحة: إن إقامة نماذج الاقتصاد السياسي العربية الناجحة ستتطلّب من القادة استثمارا مجديا في الفئات المهمّشة تقليديا، مثل الشباب والنساء. كما أن على هذه النماذج أن تخلق أطراً تنظيمية ترتكز على قواعد واضحة، وتتميّز بالإنصاف والشفافية وتشجّع وضع معايير جديدة للمحاسبة. ويتعيّن على كل نظام جديد أن يخلق الضوابط والموازين التي تخضع الساعين للتمتّع بالريع إلى المنافسة الحقيقية.

تفكّك الريعية

بعد الحرب العالمية الثانية، اقترن تطبيق نموذج التنمية العربي بالتركيز على الإنتاج المحلي والنزعة التجارية الحمائية، وذلك ما يعرف بتصنيع بدائل المستوردات. وفي العقود الأولى بعد الحرب، حققت أغلبية البلدان العربية نتائج إيجابية في ميدان النمو الاقتصادي، وسجّل كثير منها ارتفاعاً ضخماً في معدل العمر المتوقع، والقدرة على القراءة والكتابة، والصحة العامة. وفي الستينيات والسبعينيات، كان الشرق الأوسط هو المنطقة الأسرع نمواً في العالم، وتعزّز ذلك بالحظر على النفط العام 1973.2 وأفضى ذلك إلى تغير دائم في بنية أسواق الطاقة العالمية، ومهّد السبيل أمام العائدات الهيدروكربونية الاستثنائية التي أعقبت ذلك. ومع مرور الوقت، أبرمت البلدان العربية صفقات سلطوية– أي عقوداً اجتماعية ضمنية بين الحكومات والمواطنين، جرت فيها مقايضة الرفاه الاجتماعي، والوظائف، والأمن بالرضوخ والاستكانة السياسية، كما بدأت البلدان المصدّرة للنفط، وأنظمة الحكم الملكية الخليجية بصورة خاصة، بالتمتّع بثروات غير مسبوقة.

 

تنتفع كل دولة بريع ما، سواء مصدره الأملاك، أو السياحة، أو الموارد الطبيعية، أو “نِعَم الطبيعة” الأخرى، بيد أن الدولة الريعية تعتمد على الإيرادات المترتبة على استخلاص الموارد الطبيعية التي تملكها الدولة وبيعها.3 في إحدى الدول المصدّرة للنفط في الشرق الأوسط، لا تتجاوز نسبة الأيدي العاملة التي تقوم باستخلاص النفط اثنين أو ثلاثة في المئة. غير أن العائدات الناجمة عن ذلك قد تمثل 80 في المئة من دخل الحكومة.4 وعلى هذا الأساس، لم يعتمد ازدهار أي دولة ريعية في الشرق الأوسط على الإدارة المالية السليمة أو على نجاح المشروعات الخاصة فيها بقدر اعتماده على سعر النفط الخام.

 

وفيما كانت النخب العربية تستمتع بمنافع النظام الريعي، فإنها كانت تبذل قصارى الجهد لمجاراة معدلات التكاثر السكاني المتعاظمة، وانتقال أهل الريف المُتسارع إلى المدن. واستجابت أكثر البلدان في المنطقة إلى التخمة العمالية التي نتجت عن ذلك بتحويل ريع الموارد الهيدروكربونية لخلق وظائف في القطاع العام. غير أن ذلك لم يكن إلا حلاً قصير الأمد. فبحلول الثمانينيات، وجدت الجمهوريات العربية. على خلاف جيرانها الأكثر ثراء في الخليج، صعوبة متزايدة في توليد العملة الصعبة الضرورية للمحافظة على نظم الرفاه الاجتماعي السخية فيها. وقد حاولت هذه الدول، في مواجهة معدلات الفقر المتزايدة في المناطق الريفية، والقطاعات العامة العريضة غير المستدامة، والقيود المالية القاسية، بصورة تدريجية تبنّي إصلاحات ليبرالية في السوق بدعم من قروض التصحيح الهيكلي من صندوق النقد العالمي والبنك الدولي. وفي الدول ذات الكثافة العمالية العالية، والموارد الشحيحة مثل مصر، والأردن، وتونس، جرى تفكيك القطاعات العامة وخصخصتها، وتقليصها، بعد أن كان حجمها قد بلغ الذروة في السبعينيات، كما خفضت الحواجز التجارية.

 

غير أن اللبرلة الاقتصادية، في غياب الإصلاحات السياسية الهادفة، أفضت إلى ظهور الرأسمالية المحسوبيات. فقد استحوذت النخب المتمتعة بالامتيازات على جانب كبير من مكاسب الخصخصة والنمو الاقتصادي الكلي والتجارة المتزايدة.5 وفيما كانت أقطار مثل مصر، والأردن، والمغرب وتونس تنتقل إلى استراتيجيات تنموية تستهدف التصدير، فإن الصفقات السلطوية تحولت إلى سياسات اقتصادية نيوليبرالية. وحيث إن القطاعات العامة ظلت تعتمد على السلطة السياسية – بل تختلط بها – فإنها قلما تبلورت كمراكز قوة مستقلة.

ظلّت مستويات الاستثمار الأجنبي منخفضة، وأصاب الركود قطاعات الإنتاجية العالية مثل الصناعة التحويلية، بينما حدّت الموارد ذات المستوى المتدني من قدرة القطاعات العامة على استيعاب طالبي الوظائف من الشباب المتعلمين. وأدت هذه التوجهات إلى تحوّل هيكلي نحو قطاعات الخدمات غير النظامية متدنية القيمة التي تعرض على العموم وظائف غير إنتاجية ومنخفضة الأجر.6 ومن المعروف على نطاق واسع أن إحصائيات العمالة في الشرق الأوسط لاتدعو إلى الثقة. إلا أن بعض التقديرات تشير إلى أنه بحلول العام 2010، فإن ما يتراوح بين 10 و15 في المئة من القوى العاملة في مصر، والمغرب وتونس، وأقل من ذلك في العراق واليمن، كانوا يعملون في القطاع الخاص النظامي (المتميّز عن القطاع النظامي).7 وقد ظل إنفاق القطاع العام في بلدان الخليج – وحتى، على الأقل، الانخفاض الأخير في أسعار النفط– مرتفعاً بشكل حاد، وكان ما يعادل 90 في المئة تقريباً من المواطنين الناشطين اقتصادياً في الكويت، والإمارات العربية المتحدة وقطر يعملون في القطاع العام.8

أسفرت شبكات المحسوبية المتضخمة عن تفشي الفساد بصورة وبائية في الدولة. وفي تقرير منظمة الشفافية الدولية عن مؤشرات مدركات الفساد للعام 2017، احتلت ست عشرة دولة من الدول العربية العشرين التي شملها المسح مراتب أدنى من الوسط الحسابي العالمي، وهو 43 (على سلم يتراوح بين صفر ومئة).9 وفي دراسة مسحية أجرتها مؤسسة كارنيغي في العام 2016، أعرب مائة من قادة الرأي العرب عن اعتقادهم بأن الفساد هو التحدي الثاني في المنطقة بعد النزعة السلطوية.10 وبما أنه من الصعوبة بمكان تحديد الفساد والاستئثار الاقتصادي كميا، فقد وجد البنك الدولي دلائل على أن الشركات التي تتمتّع بارتباطات سياسية تحظى بامتيازات اقتصادية في عدد من دول الشرق الأوسط، وتعيق نمو الشركات الصغيرة الفتية التي يفترض فيها أن تكون هي الرافعة القادرة على خلق الوظائف.11 وفي غضون السنوات العشر التي سيقت الانتفاضات العربية العام 2011، كانت المؤشرات الاقتصادية الكلية إيجابية على العموم.12 غير أن هذا النمو الاقتصادي تزامن مع تطلعات عريضة بما يتوجب على الحكومات القيام به. ومع تزايد مدركات الفساد، وتفشي الفقر والبطالة، واستمرار الركود السياسي، أصبح انفجار مشاعر السخط في أوساط الجماهير، على الأرجح، أمرا محتما.

 

 

 

تجلّت أنماط الريعية بصور متباينة في مختلف السياقات. فالبلدان الملكية الخليجية تمثّل أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي للدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، على الرغم من أنها تضم 15 في المئة فقط من السكان.13 وقد مكّنها توافر عائدات النفط الهائلة، وقلة عدد السكان وربما الشرعية السياسية التي تفتقر إليها جمهوريات الحزب الواحد، تاريخيا، أن تغلِّب الاستتباع على الإرغام في تعاملها مع الموطنين. إلا أن انهيار أسعار النفط العام 2014 فرض ضغوطا وقيودا هائلة، ولاسيما في البحرين، وعُمان، والسعودية، التي ستجهد لاحقاً لمجاراة التزايد المطّرد في عدد السكان.14 يضاف إلى ذلك أن المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وبصورة خاصة البحرين، ردّت على الفوران المتواصل في المنطقة بممارسة المزيد من القمع ضد أي شكل من أشكال الانشقاق السياسي.

 

إن الجمهوريات العربية المصدّرة للنفط – الجزائر والعراق وليبيا – تستمدّ دخلاً مهمّاً من ريوع الموارد. وكانت سورية واليمن ذات يوم من البلدان المصدّرة للنفط، غير أن الإيرادات انهارت عندما تضافرت عوامل الحرب وتضاؤل الإنتاج وانخفاض الأسعار.15وفي هذه البلدان الخمسة، أنفقت العائدات بصورة متناظرة على أجهزة القمع والمؤسسة العسكرية، كما تعاقب عليها الفساد والمحاسيب. وكانت محصلة ذلك اقتصادات متدنية الأداء، وبصورة خاصة حالات الإخفاق الخطيرة في مجال الحوكمة. ولم يكن من قبيل المصادفة أن هذه الدول الخمس كانت هي الأكثر معاناة للصراعات الداخلية خلال العقود الأخيرة.

 

تمثّل البلدان شبه الريعية الأكثر فقراً فئة ثالثة. وقد تسفر اكتشافات الغاز في شرقي البحر الأبيض المتوسط في المستقبل عن عائدات جديدة مهمة في المشرق.16 ويتعاظم استخلاص الغاز بسرعة في مصر، لكن حصة الفرد من عائدات الموارد الهيدروكربونية تتضاءل بوجود ما يقارب 100 مليون نسمة من السكان، بالمقارنة مع نظائرها الأكثر ثراء. ليس في لبنان وفلسطين إنتاج هيدروكربوني حالياً بينما يحتل الإنتاج في الأردن والمغرب مرتبة هامشية. وثمة صناعات لاستخلاص الطاقة في السودان وتونس، غير أنها على العموم متواضعة وآخذة بالتناقص. وتضم هذه الدول أكثر من نصف السكان في المنطقة، غير أنها تمثل ربع الناتج المحلي الإجمالي فيها. لكن على الرغم من تدني مستويات الموارد الهيدروكربونية، فإن النموذج الريعي يتغلغل في مرافق هذه الدول كذلك. وتتخذ الإيرادات أشكال عدة، بما فيها الاستثمارات الخليجية، وتحويلات العاملين في الخارج، وعطايا الموارد الطبيعية البديلة، مثل قناة السويس في مصر، والبوتاس في الأردن، والفوسفات في المغرب. ولم يستخدم جيران هذه الدول الأكثر ثراء عائدات النفط لشراء الولاء السياسي الداخلي وحسب، بل هي تجاوزت الحدود كذلك لشراء الولاء من الدول الأثر فقراً. وقد أفادت الأردن، ومصر، وفلسطين بصورة خاصة من كرم الدول الأجنبية في الخليج والولايات المتحدة، مقابل الاستكانة الدبلوماسية. وإذا استثنينا تحويلات العاملين في الخارج، فإن تدفقات الدخل هذه تصب في خزينة الحكومات، التي تقوم من ثم بإعادة توزيعها على شبكات المحسوبية المحلية، من خلال الوظائف في القطاع العام، والعقود التفضيلية للمتنفذين السياسيين داخل النظام، أو الدعم المالي المباشر في حالة العشائر الأردنية.

 

*جوزيف باحوط, بيري كاماك-مركز كارنيغي للشرق الاوسط

 

أموال يمن؛موقع إلكتروني إقتصادي...الرأى المنشور يعبر عن صاحبه،ورسالتنا خدمةالجمهور بمصداقية؛ورفع مستوى الوعي الاقتصادي، فيما غاياتنا إبتكار قوالب صحفيةجديدة...لصحافةإقتصاديةمشوقة...ذات محتوى يواكب متطلبات العصر...ينير الدرب...كمصدر للمعلومات.